ملخص
على رغم أن المشاهد لأعمال المانجا يجد نفسه أمام رسومات تبدو طفولية من ناحية اعتمادها على شخصيات كارتونية وخيالية، فإن دقة الرسم الياباني وخطوطه الصارمة تجعل هذا الفن صعب على مستوى الممارسة ومركباً من ناحية دلالاته الفكرية ومدى تجذره في بيئته، إذ يضمر خطاباً بصرياً يحاكي تحولات الواقع، ويمارس الغواية مع التاريخ، ويداعب مفهوم الذاكرة وخيوطها المضيئة.
يعد فن المانجا (القصص المصورة) من الفنون البصرية الأكثر حضوراً في المشهد الفني الياباني. ذلك أن تأثيرها على الأفراد يبدو كبيراً مقارنة بفنون تعبيرية أخرى مثل الموسيقى والسينما والمسرح. إذ على رغم طابعها التقليدي القائم على الرسم بالأبيض والأسود، فإن شعبيتها تظل كاسحة في المجتمع الياباني، بحكم ما رافق هذا الفن من شعبية كبيرة جعلته من الفنون البصرية القادرة على صناعة متخيل المجتمع وتاريخه وذاكرته. فهذه القصص المصورة لم تبقى رهينة موضوعات بعينها بقدر ما ألمت بمختلف تحولات المجتمع الياباني سياسياً واجتماعياً وثقافياً.
تاريخياً، لا يوجد هناك زمن محدد يؤرخ فيه لظهور المانجا في اليابان، لكن بعض الباحثين يعتبرون أن ممارسته قديمة جداً وتعود إلى العصر الوسيط، لكن ليس بالطريقة التي يمارس بها اليوم. غير أن ظهور بعض التجارب الفنية اليابانية الشهيرة مثل كاتسوشيكا هوكوساي، الذي توفي في مايو (أيار) عام 1849 وترك عديداً من رسوماته، يعطي الانطباع بأن هذا الفن لم يكن وليد هذه المرحلة بالضبط، وإنما كانت هناك محاولات فنية سابقة على الفترة التي عاش فيها الرجل.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
عديد من النقاد يعتبرون أن ظهور المانجا في المجتمع الياباني يعود إلى القرن الـ12 الميلادي، مع العلم أنه لا يوجد دليل علمي أو وثيقة تاريخية تؤكد هذا الطرح. لكن بصرف النظر عن مسألة البدايات التي تكون في غالب الأحيان غير دقيقة ويطبعها غموض كبير، فإن فن المانجا له أبعاد تاريخية ضاربة في الذاكرة اليابانية، لكنه تطور خلال كل مرحلة مر بها، انطلاقاً من التأثير الذي تتركه بعض السياقات التاريخية على الممارسات الفنية، سواء عن طريق المادة أو السند أو الشكل أو حتى اللون الذي بدأ في السنوات الأخيرة يطبع بعض الرسومات الصادرة في الكتب. وهو تحوّل جمالي مهم يقدم انطباعاً فنياً عن الطريقة التي بها كان فن المانجا (الأبيض والأسود) وما أصبح عليه في المرحلة المعاصرة.
هوية المجتمع الياباني
إننا هنا إذاً أمام فن ليس بالحديث كما قد يُظن، وإنما له سياقاته التاريخية وأبعاده الفكرية ذات الصلة بمظاهر الحياة السياسية والاجتماعية والثقافية والرمزية. وهذا المعطى يساعدنا على فهم الأسباب الحقيقية التي جعلت هذه القصص المصورة البسيطة جداً، التي تعتمد على رسومات صغيرة وأشكال جسدية عبارة عن خطوط مختلفة، تحظى بكل هذا النجاح الكاسح في اليابان منذ منتصف القرن الـ20. والحقيقة أن وعي المجتمع الياباني بتاريخه وذاكرته وثقافته وفنونه وعاداته وتقاليده، أسهم بشكل مضمر في الحفاظ على هوية المانجا في العالم وجعلها تحتل مكانة رمزية أصيلة داخل المجتمع، بحيث يتعامل معها اليابانيون على أساس أنها فن تاريخي عبارة عن ذاكرة رمزية يقرأ فيها الآخر تاريخهم، كما أنها تحاكي مختلف مظاهر الحياة داخل المجتمع الياباني.
لذلك نعثر على معارض كثيرة تُقام في المؤسسات الفنية التي تحتفي بهذا الشكل التعبيري التراثي وتتعامل معه على أساس أنه شكل من أشكال امتداد الماضي في الحاضر، وهو ما نسميه عادة بالتراث. وهذا الأخير لا يمكن فصله إطلاقاً عن التجربة اليابانية لأنه عنصر مهم وأساسي في حياة الدولة الحديثة. أكثر من هذا، فقد أصبحنا نُعاين حضوراً مكثفاً للمانجا في عديد من الفضاءات الفنية العربية، بخاصة داخل المؤسسات السعودية التي احتفت أكثر من مرة بفن المانجا، وجعلت منه صلة بين حاضر المجتمع العربي وماضي التاريخ الفني في اليابان.
إلى جانب المعارض الفنية التي ازداد وعيها بقيمة فن المانجا بشكل كبير في العالم العربي، نجد مؤسسات ثقافية عربية أصبحت تصدر كتب مانجا باللغة العربية، إيماناً منها بقوة هذا الفن ودوره في تخليق حياة الفرد وحثه على التفكير والخيال والحلم. كما أن هذه المؤسسات لم تتحايل يوماً على المادة الفنية وتنسبها لنفسها، بل ظلت توجه القارئ إلى أنه أمام فن المانجا الياباني ولكن بلغة عربية، وذلك بغية تقريب معالم وعوالم هذا الفن الشعبي إلى القارئ العربي. وعلى رغم تشابه القصص المصورة العادية التي تروج في العالم العربي تحت أسماء أخرى مثل "الكوميكس" مثلاً، بحكم التناظر البصري الذي تقوم عليه، فإن هناك اختلافاً جوهرياً ووجودياً كبيراً بين الكوميكس العربي وبين المانجا الياباني، فهذا الأخير يظلّ واضح المعالم البصرية والرؤى التخييلية التي تجعل منه على مدار قرون محافظاً على هويته البصرية والجمالية التي جعلته ينطبع بمظهر التجدد والاختلاف.
اختلافات جوهرية
بيد أن التشابه لم يكن سبباً في تقليص حضور المانجا في العالم، بل كان بمثابة أحد العناصر الأساسية التي أسهمت في ذيوع وانتشار هذا الفن وجعله علامة بارزة ومضيئة داخل المشهد الفني الياباني. ويعتبر نقاد الفن أن الفرق بين الكوميكس والمانجا كامن في عنصر اللون وتدرجاته التي تختفي في المانجا في حين أن الكوميكس في العالم يبني وجوده وشرعيته وجمالياته انطلاقاً من العناصر اللونية التي يتميز بها. لكن هذا الأمر غير صحيح إطلاقاً، حيث توجد مانجا تتميز بألوانها وإن كانت محتشمة جادة، ولكنها موجودة.
غير أن اللون في المانجا يكون بمثابة عنصر مكمل داخل الرسم ولا يأخذ بعداً كلياً في العمل الفني، في حين نجد عديداً من رسومات الكوميكس ملوّنة بالكامل لدرجة تقدم جمالياتها من خلال هذا العنصر التزييني الذي يشجع القراء على شراء مجلاتها، حيث تصبح الصناعة الفنية عنصراً أساسياً يمتزج فيه ما هو فني وما هو تجاري. أما المانجا فظلت تحتفظ برونقها الجمالي، عاملة على تجديد موضوعاتها الفنية وعناصرها الجمالية، من دون تأثير على مفهوم الشكل الذي لم يتغير، بل ظل على حاله، وهو ما جعل من فن المانجا من الفنون البصرية التي لا يمكن فصلها عن اليابان.
تقدم هذه الكتب عديداً من النماذج الناجحة في اليابان مثل مانجا سينين، ومانجا شونين، ومانجا شوجو، ومانجا جوسي، وغيرها من الأنواع التي تحيل إلى نوع فني معين، والتي غالباً ما تستوحي عوالمها من الحركة والكوميديا والدراما والتاريخ والرعب والخيال العلمي والفانتازيا، مثلها مثل باقي الفنون الأدبية والتعبيرية، سواء تعلق الأمر بالرواية أو التشكيل أو حتى السينما التي تحضر فيها دائماً هذه الأساليب الفنية.
يتميز المانجا بقدرته على خلق نظام سردي مكثف يبني جمالياته انطلاقاً من مفهوم المتواليات السردية. غير أن لذة السرد البصري لا تتحقق بالطريقة نفسها داخل كل أنواع المانجا، ففي كلّ نوع فني نجد نمطاً معيناً من السرد الذي يخدم شكل مانجا معين، ويبحث له عن أسلوب شيق يتماشى مع طبيعة الحكاية ومساربها الجمالية وخصائصها السردية المختلفة والمتنوعة، بما يجعله فناً صعباً ومتشعباً يصعب فهم ميكانيزماته وأنماطه.
وعلى رغم أن المشاهد لأعمال المانجا يجد نفسه أمام رسومات تبدو طفولية من ناحية اعتمادها على شخصيات كارتونية وخيالية، فإن دقة الرسم الياباني وخطوطه الصارمة تجعل هذا الفن صعباً على مستوى الممارسة ومركباً من ناحية دلالاته الفكرية ومدى تجذره في بيئته، إذ يضمر خطاباً بصرياً يحاكي تحولات الواقع، ويمارس الغواية مع التاريخ، ويداعب مفهوم الذاكرة وخيوطها المضيئة.